اكتشف العامل الحقيقي الوحيد الذي يحدد سعر الذهب
يُعتبر الذهب من أقدم وأهم الأصول التي يلجأ إليها الإنسان لحفظ الثروة ومواجهة الأزمات الاقتصادية والجيوسياسية. ومع أنه لا يدرّ أي دخل مالي مباشر، مثل الأرباح أو الفوائد، فإنه استطاع أن يحافظ على قيمته عبر قرون، وظل أحد أكثر الأصول جذبًا للمستثمرين. لكن السؤال الذي يطرحه كثيرون هو: ما الذي يحدد حقاً سعر الذهب؟ هل هو الطلب؟ المضاربات؟ قرارات البنوك المركزية؟ أم عوامل أخرى؟
رغم تعدد المؤثرات الظاهرة، فإن التحليل المتعمق يكشف عن حقيقة واضحة: تكلفة الإنتاج هي العامل الحاسم والوحيد الذي يحدد سعر الذهب على المدى الطويل.
الذهب: أصل لا يدرّ دخلاً… لكن قيمته ثابتة
الذهب لا يوزع أرباحاً ولا يولد فوائد ولا يتيح عوائد إيجارية، ما يجعله مختلفاً عن باقي الأصول المالية. ورغم ذلك، تميّز الذهب على مدى قرن من الزمن بثبات قدرته الشرائية. فمثلاً، كانت أونصة ذهب تكفي لشراء بذلة فاخرة قبل مئة عام، ولا تزال كافية لذلك اليوم. وبالمثل، كانت قطعة ذهبية من فئة 20 فرنكاً تكفي لشراء دراجة سنة 1900، وهو ما يصحّ حتى اليوم.
هذه الثبات في القيمة لا يعكس سحر المعدن الأصفر فقط، بل يعبّر عن توازن اقتصادي بين تكاليف الإنتاج وسلوك السوق.
تكلفة الإنتاج: حجر الزاوية في تحديد السعر
إذا كان الذهب لا يدرّ عائداً، فإن الطريقة الأكثر واقعية لتقدير قيمته هي النظر إلى تكلفة إنتاجه، وبالتحديد ما يُعرف في أوساط الصناعة بـ AISC (التكلفة المستدامة الشاملة). تشمل هذه الأخيرة كل ما يدخل في عملية استخراج الذهب: من التكاليف التشغيلية المباشرة، إلى مصاريف الصيانة، والإدارة، والبيئة، وحتى الاستكشاف المستقبلي.
وتشير الدراسات إلى أن تكلفة الإنتاج تفسر ما يصل إلى 70٪ من تحركات سعر الذهب منذ أكثر من عقد. وتعمل هذه التكلفة كـ”أرضية” للسوق، إذ يصعب أن ينخفض السعر دونها لفترة طويلة، وإلا واجهت شركات التعدين خسائر تؤدي إلى توقف الإنتاج وانخفاض العرض.
دورة السوق: الاستجابة البطيئة للطلب
عندما يرتفع الطلب على الذهب، سواء لأسباب استثمارية أو صناعية أو حتى بسبب الأزمات، ترتفع الأسعار. لكن إنتاج الذهب لا يمكن أن يرتفع بالوتيرة نفسها، إذ يتطلب تطوير منجم جديد ما بين 10 و20 سنة في المتوسط. هذا التأخر في الاستجابة يجعل السوق عرضة لدورات سعرية طويلة، غالباً ما تمتد من 9 إلى 12 سنة من الصعود، تليها فترات تصحيح تستمر لعقود.
وهكذا، يصبح سعر الذهب انعكاساً لتوازن بطيء ومتدرج بين العرضالذي تحده تكلفة الإنتاج، والطلب الذي يتغير تبعاً للظروف الاقتصادية والجيوسياسية.
عوامل ترفع التكلفة… وبالتالي السعر
منذ مطلع الألفية، عرفت تكلفة إنتاج الذهب ارتفاعاً مطرداً. ويعود ذلك إلى عدة عوامل:
-
تراجع جودة المناجم: مع استنزاف الموارد السهلة، باتت المناجم الجديدة أكثر عمقاً وأقل مردودية.
-
ارتفاع الأجور: تشكل الرواتب حتى 50٪ من تكلفة الإنتاج، وهي ترتفع باستمرار، خصوصاً في الدول المتقدمة.
-
تكاليف الطاقة: الذهب يحتاج إلى كميات هائلة من الكهرباء والوقود.
-
المعايير البيئية والاجتماعية: أصبحت أكثر صرامة، ما يرفع من كلفة التشغيل.
في عام 2024، وصلت تكلفة الإنتاج إلى حوالي 1,500 دولار للأونصة، ما يبرر السعر الذي تجاوز 2,300 دولار. وإذا استمرت التكاليف في الارتفاع، فإن بلوغ سعر 3,000 دولار للأونصة سيكون نتيجة منطقية، وليس مجرّد مضاربة.
المضاربة ليست العامل الرئيسي
صحيح أن الذهب يتأثر أحياناً بالمضاربات، خصوصاً في فترات الأزمات أو الأخبار الجيوسياسية المفاجئة. إلا أن هذه التحركات تبقى قصيرة المدى، وسرعان ما يعود السوق إلى التوازن الذي تفرضه قواعد العرض والتكلفة. والدليل أن جميع محاولات التلاعب بسوق الذهب كانت مؤقتة، وانتهت بتصحيح طبيعي يعيد السعر إلى محيطه المرتبط بتكلفة الإنتاج.
التكلفة هي الحكم
رغم كل ما يُقال عن تأثيرات الطلب والمضاربة وسياسات البنوك المركزية، فإن تكلفة إنتاج الذهب تظل العامل الوحيد الثابت والحاسم في تحديد سعره على المدى الطويل. هي التي تفرض الحد الأدنى للسعر، وتوجه قرارات المستثمرين وشركات التعدين، وترسم الحدود التي لا يمكن للسوق أن يتجاوزها كثيراً دون أن يتوازن من جديد.
إن فهم هذه القاعدة البسيطة – أن الذهب يُسعَّر بتكلفته – يمنح المستثمرين رؤية أوضح، ويحررهم من التفسيرات المعقدة أو العاطفية التي تحيط بهذا المعدن الثمين.